الغيابة الأولى : الحليب
أحسست بطعمه في فمي وأنا أستيقظ هذا الصباح. لم أتذكر الحلم، ولكن طعم الحليب كان في فمي، وسرعان ما عادت إلى ذاكرتي رائحته الفاغمة التي عرفتها في الطفولة وهي تتصاعد مـع البخار إلـى الأنـف، وشـرشـرتـه وهويهـبط من الإبـريـق الأبـيض إلى الكـأس المـزوقة في الصـينـية الصفـراء، حتى لقد أحسست بالشرشرة تغلف - بغلاف مخملي ناعم - ضجيج السيارات وراء زجـاج النـافـذة المـغـلـقة. وغمرني وأنا بين النوم واليقظة عالم الحلـيب الـطفـولي القديـم.
- حليب الكأس المزوقة والإبريق الأبيض
- وقبله حليب المعزاة الملتذة بالحلب وهي تجتر ساكنة مستسلمة، ورائحة الضرع المكتنز الأجرد، والخشونة الناعمة ل (البزولتين) الدافـئتين، والحليـب وهـو يسـقط منهما في دفـعـات مـوقـعة في نغمتين متواليـتـين : نغمة الخروج من الضرع، ونغـمة السقوط في الحلاب الطـيني الأحمـر المغسـول، المسـدود فمه بنبات شوكي (لتصفية ما قد يقع في الحـلاب من قذى أو غبار).
- وقبل هذا حـليـب الرضاعـة، ولم يعد في ذهـني منه إلا أطياف حس لا تكاد تبين، ولكـني أعاود الإحساس بالرضاع :
*** في غموض كثيف تارة حين أتصور أمي وهي تتزين وتبكي في نـفس الوقـت، أرفــع عيني الطفلتين إليها فأراها تتكحل أمام المرآة المكسورة، وأرى الدمع الأسود ينساب على خديها الجميلين، فأبكي لأني لا أحتمل جمالها الخارق أو لأني لا أحتمل بكاءها الحزين الصامت أو لأني لا أحتمل اجتماعهما معا : الجمال والبكاء، فتحملني إلى حضنها وتلقـمني ثديها الأبـيض وتطـل علي بوجهها الجميل الباكي فأغمض عيني وقد انحفر فيهما إلى الأبد.
*** وفي غموض شـفـيف تارة أخرى حين أتصور جارتنا (خالـتي فاطنة) تلـقـمني ثـديـهـا الأسـمـر الكبـيـر وهـي تغـني أو تذكر الله أو تـتابع حديـثها مع أمي، وأنا أسـمع صـوتهـا الحـلـو المدغدغ، وأتأمل وجهها الموشوم وةعينيها البراقتين وأسنان ضحكتها البيضاء قبل أن أغمض عيني لأركز حواسي على طعم الحليب.
هو ذا الطعم الأبيض الحلو يعود إليّ الآن بعد هذا العمر الطويل، وأنا الذي لم أذق الحليب منذ سن السابعة، ولكنه يعود ممتزجا بطعم غريب : طعم كطعم التراب.
(وأنا صبي، كنت مولعا بأكل التراب، حتى لقد كانت أمي تسـجـن كـفي الصغيرتـين في قـفـازين مصطنعين من مزق الأثواب البالية، وتضربني حتى يرتفع صراخي حين تجدني مكبا بوجهـي على الأرض ألحس ترابها في (نَشَ _ هْوَة) دونها (نشوة) الرضاع.
أو لعله طعم الصلصال، ذلك النوع الأصفر المتماسك من التراب، الذي كنا - ونحن بعد في الكتاب - نطلي به ألواحنا الخشبية بعد غسلها من محفوظات الأمس لنكتب عليها من جديد. أسترد طعم الصلصال في فـمي الآن. طعم مزدهر، مهـرجان حواس، أرى صفرة الصلصـال البـاهـتة، وأسمع سن قلم القصب وهو يخط عليها، وأحس بلساني وأسناني نعومتها وهي تتفـتت تـحت أضراسي كالشوكولاطة. حينئذ، حينئذ فقط، يأتي الطعم المزدهر، طعم الجنة (كنت أتصور الجنة في الآيات التي أقرأها جنة من صلصال) هذا الإحساس المزدوج بالحليب وبالصلصال، أو بدقة: هذا الإحساس المركب المتداخل بالحليب - الصلصال، هو ما أحسسته وأنا أستيقظ فزعا من حلم لم أعد أتذكره.
اشتريت نصف لـتر من الحليب، ليـس عـندي إبـريـق، غـليت الحليب في (الكاصـرونة)، حـليـته بالسكر، ثم صبيته في فنجان القهوة.
(لا كأس ولا صينية ولا صلصال)، نفخت على الحليب الساخن ليبرد (اللي ينفخ على الحليب يشتاقو) كانت المرحومة تقول. ثم تذوقت الرشفة الأولى. قبل أن أتذوق الثـانيـة، تـذكرت الحـلـم، كاملا، وبوضوح، بوضوح باهر ورهيب.
الغيابة الثانية : الحلم
رأيتني أولد. أخرج إلى الدنيا شيئا فشـيئا، أتولد. كنت أحس على زغـب رأسـي النــاعم (أراه زغبا صغيرا ملتصقا بجلدة الرأس الطرية وأحسه ناعما وأنا مغمض العـينين بـعد) نفـخة هـواء بارد تعقبها لفحة هواء ساخن، تعقبها؟ بل في نفس الوقت، أحس بالنفحة/اللفحة باردة ساخنة في نفس الوقت، وباليدين، تستقبلانني، يدين صلبتين/مرنتين، يدين خبيرتين، تمسكان جانبي رأسي بحـزم ولكـن دون ضـغـط، وتجـران، لا تجـران فـعـلا، ولكـن تهـمــان بـذلـك، أو توحـيان بـه، أو تشجعان/تساعدان عليه.
رأسـي فـي الخـارج أصـبح، وسـائــر جـسمـي بعـد في الداخل، وأنا أولد شيئا فشيئا، وأنا أتولد ....... لكـن دون نهـاية. أحـس أن هذه الولادة لا نهاية لها، وأنني سـأبقى هـكـذا الى الأبد، أولد وأولد وأولد، دون أن أولد، أحس أني محكوم بولادة مؤبدة، وأني سوف أعيش أولد حتى أموت.
وداخل هذا الإحساس/ومعه في نفس الوقت، أحس أني أموت، وأن هناك يدا كبيرة من فوق، وليس من تحت، لا تستقبلني بل ترسلني وكأن هذه اليد الكبيرة سمراء، كأنها يد عظيمة معروقة لا لحم فيها، يد يابسة باردة تضغط بأصابعها الـقاسية عـلى كـرتي الطـينية (ذلـك أني أصبحت في هذه اليد كرة طين) وتفتتني. وأنا أتصاغر وأتذارر وأتساقط في الفراغ، (شاعر بأني أموت) أتساقط بين اليد الكـبيرة العالية جـدا وبيـن الأرض البعـيدة البعيدة جـدا، لا أخـرج كـلـيا مـن اليـد ولا أصل نهائيا إلى الأرض. بين بين أحسني أتولد. بين بين أحسني أتلاشى. أتولد أتلاشى ... أتو ... أشى ... أتلا ... لد. ولكن أين الحليب/الصلصال؟ الغريب أن الحلم لا حليب فيه ولا تراب، فمن أين جاء هذا الطعم المركب إلى فمي وأنا أستيفظ مرعوبا من الحلم هذا الصباح؟
الغيابة الثالثة : النمر
وحيدا، حرا، عاريا، يسير على حافة الآن. على حافة الآن السائلة من منبع الأمس إلى مصب الغد يسير النمر وحيدا كآدم، حرا كشعاع، عاريا كإمبراطور، وعلى الضفة الأخرى تتجمع قبائل القلب حول النار ترقص وتضرب الطبول، وتصلي:
"يا أطلس
دم دم .. دم
يا أرقط
دم دم .. دم
يا أجلى من نور الشمس وأخفى من سر الليل الأبكم
دم دم .. دم
يا الكائن حتى القتل الفاسد حتى النفي الأدنى حتى المثل الأقصى حتى الضد ويا حتى الحتى
دم دم .. دم
يا الضارب في نبضات القلب الساري في كريات الوعي الشاخص في لفظ الموت الناشب في حلق الصوت ويا دمدمة الدم
دم دم ..دم
يا الحطم القطم الخارج م الخارج والداخل في الداخل والناشز والمختلف المنتبذ الملتم
دم دم .. دم
يا الماء النسغ ويا النار السنيا
يا اللايسكن واللايعيا
دعنا نحيا
دم دم ..دم
دعنا نحيا
دم دم .. دم
دعنا نحيا
دم دم .. دم
دعنا نح"
أحسست بطعمه في فمي وأنا أستيقظ هذا الصباح. لم أتذكر الحلم، ولكن طعم الحليب كان في فمي، وسرعان ما عادت إلى ذاكرتي رائحته الفاغمة التي عرفتها في الطفولة وهي تتصاعد مـع البخار إلـى الأنـف، وشـرشـرتـه وهويهـبط من الإبـريـق الأبـيض إلى الكـأس المـزوقة في الصـينـية الصفـراء، حتى لقد أحسست بالشرشرة تغلف - بغلاف مخملي ناعم - ضجيج السيارات وراء زجـاج النـافـذة المـغـلـقة. وغمرني وأنا بين النوم واليقظة عالم الحلـيب الـطفـولي القديـم.
- حليب الكأس المزوقة والإبريق الأبيض
- وقبله حليب المعزاة الملتذة بالحلب وهي تجتر ساكنة مستسلمة، ورائحة الضرع المكتنز الأجرد، والخشونة الناعمة ل (البزولتين) الدافـئتين، والحليـب وهـو يسـقط منهما في دفـعـات مـوقـعة في نغمتين متواليـتـين : نغمة الخروج من الضرع، ونغـمة السقوط في الحلاب الطـيني الأحمـر المغسـول، المسـدود فمه بنبات شوكي (لتصفية ما قد يقع في الحـلاب من قذى أو غبار).
- وقبل هذا حـليـب الرضاعـة، ولم يعد في ذهـني منه إلا أطياف حس لا تكاد تبين، ولكـني أعاود الإحساس بالرضاع :
*** في غموض كثيف تارة حين أتصور أمي وهي تتزين وتبكي في نـفس الوقـت، أرفــع عيني الطفلتين إليها فأراها تتكحل أمام المرآة المكسورة، وأرى الدمع الأسود ينساب على خديها الجميلين، فأبكي لأني لا أحتمل جمالها الخارق أو لأني لا أحتمل بكاءها الحزين الصامت أو لأني لا أحتمل اجتماعهما معا : الجمال والبكاء، فتحملني إلى حضنها وتلقـمني ثديها الأبـيض وتطـل علي بوجهها الجميل الباكي فأغمض عيني وقد انحفر فيهما إلى الأبد.
*** وفي غموض شـفـيف تارة أخرى حين أتصور جارتنا (خالـتي فاطنة) تلـقـمني ثـديـهـا الأسـمـر الكبـيـر وهـي تغـني أو تذكر الله أو تـتابع حديـثها مع أمي، وأنا أسـمع صـوتهـا الحـلـو المدغدغ، وأتأمل وجهها الموشوم وةعينيها البراقتين وأسنان ضحكتها البيضاء قبل أن أغمض عيني لأركز حواسي على طعم الحليب.
هو ذا الطعم الأبيض الحلو يعود إليّ الآن بعد هذا العمر الطويل، وأنا الذي لم أذق الحليب منذ سن السابعة، ولكنه يعود ممتزجا بطعم غريب : طعم كطعم التراب.
(وأنا صبي، كنت مولعا بأكل التراب، حتى لقد كانت أمي تسـجـن كـفي الصغيرتـين في قـفـازين مصطنعين من مزق الأثواب البالية، وتضربني حتى يرتفع صراخي حين تجدني مكبا بوجهـي على الأرض ألحس ترابها في (نَشَ _ هْوَة) دونها (نشوة) الرضاع.
أو لعله طعم الصلصال، ذلك النوع الأصفر المتماسك من التراب، الذي كنا - ونحن بعد في الكتاب - نطلي به ألواحنا الخشبية بعد غسلها من محفوظات الأمس لنكتب عليها من جديد. أسترد طعم الصلصال في فـمي الآن. طعم مزدهر، مهـرجان حواس، أرى صفرة الصلصـال البـاهـتة، وأسمع سن قلم القصب وهو يخط عليها، وأحس بلساني وأسناني نعومتها وهي تتفـتت تـحت أضراسي كالشوكولاطة. حينئذ، حينئذ فقط، يأتي الطعم المزدهر، طعم الجنة (كنت أتصور الجنة في الآيات التي أقرأها جنة من صلصال) هذا الإحساس المزدوج بالحليب وبالصلصال، أو بدقة: هذا الإحساس المركب المتداخل بالحليب - الصلصال، هو ما أحسسته وأنا أستيقظ فزعا من حلم لم أعد أتذكره.
اشتريت نصف لـتر من الحليب، ليـس عـندي إبـريـق، غـليت الحليب في (الكاصـرونة)، حـليـته بالسكر، ثم صبيته في فنجان القهوة.
(لا كأس ولا صينية ولا صلصال)، نفخت على الحليب الساخن ليبرد (اللي ينفخ على الحليب يشتاقو) كانت المرحومة تقول. ثم تذوقت الرشفة الأولى. قبل أن أتذوق الثـانيـة، تـذكرت الحـلـم، كاملا، وبوضوح، بوضوح باهر ورهيب.
الغيابة الثانية : الحلم
رأيتني أولد. أخرج إلى الدنيا شيئا فشـيئا، أتولد. كنت أحس على زغـب رأسـي النــاعم (أراه زغبا صغيرا ملتصقا بجلدة الرأس الطرية وأحسه ناعما وأنا مغمض العـينين بـعد) نفـخة هـواء بارد تعقبها لفحة هواء ساخن، تعقبها؟ بل في نفس الوقت، أحس بالنفحة/اللفحة باردة ساخنة في نفس الوقت، وباليدين، تستقبلانني، يدين صلبتين/مرنتين، يدين خبيرتين، تمسكان جانبي رأسي بحـزم ولكـن دون ضـغـط، وتجـران، لا تجـران فـعـلا، ولكـن تهـمــان بـذلـك، أو توحـيان بـه، أو تشجعان/تساعدان عليه.
رأسـي فـي الخـارج أصـبح، وسـائــر جـسمـي بعـد في الداخل، وأنا أولد شيئا فشيئا، وأنا أتولد ....... لكـن دون نهـاية. أحـس أن هذه الولادة لا نهاية لها، وأنني سـأبقى هـكـذا الى الأبد، أولد وأولد وأولد، دون أن أولد، أحس أني محكوم بولادة مؤبدة، وأني سوف أعيش أولد حتى أموت.
وداخل هذا الإحساس/ومعه في نفس الوقت، أحس أني أموت، وأن هناك يدا كبيرة من فوق، وليس من تحت، لا تستقبلني بل ترسلني وكأن هذه اليد الكبيرة سمراء، كأنها يد عظيمة معروقة لا لحم فيها، يد يابسة باردة تضغط بأصابعها الـقاسية عـلى كـرتي الطـينية (ذلـك أني أصبحت في هذه اليد كرة طين) وتفتتني. وأنا أتصاغر وأتذارر وأتساقط في الفراغ، (شاعر بأني أموت) أتساقط بين اليد الكـبيرة العالية جـدا وبيـن الأرض البعـيدة البعيدة جـدا، لا أخـرج كـلـيا مـن اليـد ولا أصل نهائيا إلى الأرض. بين بين أحسني أتولد. بين بين أحسني أتلاشى. أتولد أتلاشى ... أتو ... أشى ... أتلا ... لد. ولكن أين الحليب/الصلصال؟ الغريب أن الحلم لا حليب فيه ولا تراب، فمن أين جاء هذا الطعم المركب إلى فمي وأنا أستيفظ مرعوبا من الحلم هذا الصباح؟
الغيابة الثالثة : النمر
وحيدا، حرا، عاريا، يسير على حافة الآن. على حافة الآن السائلة من منبع الأمس إلى مصب الغد يسير النمر وحيدا كآدم، حرا كشعاع، عاريا كإمبراطور، وعلى الضفة الأخرى تتجمع قبائل القلب حول النار ترقص وتضرب الطبول، وتصلي:
"يا أطلس
دم دم .. دم
يا أرقط
دم دم .. دم
يا أجلى من نور الشمس وأخفى من سر الليل الأبكم
دم دم .. دم
يا الكائن حتى القتل الفاسد حتى النفي الأدنى حتى المثل الأقصى حتى الضد ويا حتى الحتى
دم دم .. دم
يا الضارب في نبضات القلب الساري في كريات الوعي الشاخص في لفظ الموت الناشب في حلق الصوت ويا دمدمة الدم
دم دم ..دم
يا الحطم القطم الخارج م الخارج والداخل في الداخل والناشز والمختلف المنتبذ الملتم
دم دم .. دم
يا الماء النسغ ويا النار السنيا
يا اللايسكن واللايعيا
دعنا نحيا
دم دم ..دم
دعنا نحيا
دم دم .. دم
دعنا نحيا
دم دم .. دم
دعنا نح"